التفاصيل
“فما هو العائِقُ الذي يحولُ دونَ تطوُّرِ اللغة؟ وكيف السبيلُ إلى رفْع هذا العائق؟ أكبرُ ما يعُوقُ اللغةَ فيما يقولُون أنها لغةُ كتابةٍ لا لغةُ كلام، ولو كانتْ لغةَ كلامٍ لعاشَتْ في السُّوق والبيت، وَلَنَمَتْ مِنْ تِلقَاءِ نفسِهَا، ولاشْتَقَّتْ ألفاظَها مِنْ طبيعتِها دونَ اللُّجُوءِ إلى عوامِلَ مصنُوعَة. وذلك شأنُ العامية في أقطار الشرق، فهيَ أكثرُ طلاقةً، لأنها ترجمانُ الحياة الدارِجَة. ولكنَّ تلك العاميةَ لا ضابطَ لها ولا نِظَام، فإنها لَهَمَجِيَّةٌ غيرُ مهذَّبَة. وليس لها من أصولٍ مستقرَّةٍ قَطُّ. ولا طاقةَ لها بالتعبير الراقي عن جلائلِ الأشياءِ في ميادينِ الاجتماع. فأما لغةُ الكتابة، أعني الفُصْحَى، فقد انصَقَلَتْ على ترادُفِ الأيام، وأُحكِمَتْ ضوابِطُها في الألفاظ والأساليب، لأنها استُعْمِلَت في التعبير منذُ أَمَدٍ مديد. فهلْ يمكنُ أنْ تكونَ هذه الفُصْحَى لغة كلام لِيَتِمَّ كَمَالُها بالمعنى الواسع؟ الواقعُ أننا حين نتأمَّلُ سائِرَ اللغاتِ الحيةِ المعتَبَرةِ لغاتِ كلامٍ وكتابةٍ معًا، لا نعدِمُ الفروقَ فيها بين الكتابةِ والكلام. وربما كانت هذه الفروقُ هَيِّنةً بالإضافة إلى الفَرْقِ بين العربية وعاميَّتِها، ولكن الفرقَ في مثْل الألمانيَّةِ ظاهِرٌ. ومن المحتمَل أن يتضاءَلَ ما بين العربيةِ والعاميةِ من البَوْن على مَرِّ السنين، ولا سيما إذا اطَّرَدَ رقيُّ التعليمِ وشمولُ الثقافة. وقد يكون عن كَثَبٍ منا يوم تتدانَى فيه العربيةُ والعاميةُ باستمدادِ كُلٍّ منهما مِنَ الأُخْرى”.