التفاصيل
أنا قد أكون مسرفًا في المحافظة ولكن أشهد أني ما زلت مؤمنًا بأن الثقافة هي القوة العليا في الأرض، وبأن الثقافة وسلطان الفن لا يزالان، وسيظلان، فوق كل سلطان.
من أيسر الأمور على المثَّال البارع أن يصنع لعمر بن الخطاب — رضي الله عنه — تمثالًا يجمع بين الصدق والروعة، وبين الدقة التي تُرضي الحق والجمال الذي يرضي الخيال. فقد حفظ التاريخ لعمر صورة دقيقة صادقة لا تتعرض للشك ولا للخلاف، بحيث يراها الناس جميعًا إذا قرءوا تاريخه فلا يختلفون فيها ولا يفترقون في الإعجاب بها والإعظام لها مهما تختلف أمزجتهم وطبائعهم، ومهما تختلف آراؤهم ومذاهبهم، ومهما تختلف طرائقهم في التفكير والحكم والشعور.
وهذه الصورة الدقيقة الصادقة الرائعة التي حفظها التاريخ لعمر لا تمثل شخصه المادي وحده، وإنما تُمثل شخصه المادي والمعنوي أيضًا، وتُمثل شخصه المعنوي من جميع نواحيه: تمثل قلبه، وتمثل عقله، وتمثل إرادته، وتمثل حسه أيضًا. وهي صادقة في هذا كله، لا يتطرق إليها الشك لأنها أوضح وأظهر من أن يتطرق إليها الشك وأن تختلف فيها الآراء. وما أعرف أن تاريخ الخلفاء والملوك المسلمين قد صدق في تصوير شخصية من شخصيات الخلفاء والملوك كما صدق في تصوير شخصية عمر بن الخطاب. والغريب أن هذه الشخصية لم تكن سهلة ولا يسيرة في نفسها، وإنما كانت عسيرة مُعقدة كما سترى بعد قليل، ولكنها كانت قوية جدًّا، قوية إلى الحد الذي يعجز معه التاريخ عن مقاومتها فيضطر إلى أن يقبلها كما هي لا يستطيع أن يزيد فيها أو ينقص منها، وإنما يتلقاها كاملة وينقلها إلى الأجيال كاملة، وتمضي القرون في أثر القرون وهي كما هي لا يستطيع الزمان أن يمسها بزيادةٍ أو نقص. ولو أن مثّالًا بارعًا قرأ ما حفظ التاريخ من صورة عمر، ثم أراد أن يظهر ذلك بوسائله الفنية وأن يصنع هذا التمثال لعمر، لجمع بين خصلتين غريبتين، فكان ناقلًا لا مبتكرًا، وكان في الوقت نفسه رائعًا مُعجبًا يبهر العقول ويخلب الألباب ويملأ الأبصار والقلوب.