تأتي أهمية هذا الكتاب الذي أنفق مؤلفه سنوات عدة في القراءة والتأمل والبحث في الجوانب المختلفة ذات الصلة بحقيقة الدين، وخرج بهذا العمل الذي يُمَكِّننا من الاقتراب من أهميته الدين في الارتقاء بالإنسانية..
إن
الدور الحقيقي للدين - كما يشير عيسى بيومي – يكمن في بناء الضمائر والتعريف بالقيم، وهو دور يضمحِل في العالم بأسره، سواء في الدول المتقدمة أو الأقل تقدمًا، فالأمر ليس في التزام ظاهري للفرد بتعاليم دينه، وبتجنب نواهيه بينما يبرر ظلمه وعدوانه على من يشاركه العيش، كما أنه ليس في كثافة أعداد الزائرين لأماكن العبادة بينما الرباط ُبينهم لا يتعدى مَلء فراغ المكان، وليس في الاحتفالات بمناسبات وأعياد نتبادل فيها التهاني، والدعوات بينما القوة لا تزال هي المنطق الذي يفرض به القويّ إرادته وليس الحق والعدل.
ويتساءل المؤلف: أين مضمون الهداية في تلك الأشكال والصور المتعددة؟ وهل عِلمُ الإنسان صرفه عن شغف روحه للحقيقة الخالدة؟ وهل سيبقى للدين دورٌ مؤثرٌ في مسيرة البشرية ملبيًا لمكون الإنسان الروحي؟ أم أن سلم التطور سيصل بالبشر إلى صنع أنفسهم بما يرغبون من صفات تؤهلهم لغزو الفضاء البعيد وسكنى الكواكب، فلا تبقى لهم حاجةٌ لدين يرشدُ ضمائرهم ويعززُ قيمهم؟
إن نظرة شاملة على عالم اليوم تظهر لنا بجلاء إلى أين تسير البشرية في تطورها الأخلاقي؛ النزاعات المسلحة والاضطرابات السياسية والجيوسياسية بين الدول، والصراعات والقلاقل الداخلية، لا يفتقر إليها ركن من أركان الأرض.
إن الإنفاق العسكري للعالم في عام 2021 زاد على ألفي مليار دولار أمريكي طبقًا لمعهد ستوكهولم لأبحاث السلام العالمي، وسوف يزيد على ذلك هذا العام حسب الميزانيات المعلنة للدول.
ولنتصور كم يمكن لهذا المال أن يطعم من الجوعى، ويعالج من المرضى، وينير من عقول الجهلاء والأميين، بما يضيف للبشرية بشر أصحاء الجسد والعقل، ويعظّم من المحصلة النهائية للجهد الإنساني.
إن العالم يفقد اتزانه وترتبك بوصلته حين تتعدد تعاريف الصواب والخطأ، وحين تختلف مفاهيم القيم الإنسانية حسبما تكون المنفعة، وحين يُترك للعلم المادي وحده البحث عن الحقيقة.
يشير مؤلف هذا الكتاب إلى أن اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة تُعقد ويتبارى ممثلو أعضائها الـ 193 في تقديم ما يتصورونه الحقيقة، ليكون حصاد الحقيقة في النهاية بمثل عددهم من رؤى وروايات! فهل عقدت الأمم المتحدة اجتماعًا عالميًا في تاريخها ولو لمرة واحدة موضوعه الضمير الإنساني؟ وحتى المنتديات الدولية المرموقة بروادها من الساسة والفلاسفة والاقتصاديين والتقنيين - مثل منتدى دافوس السنوي بسويسرا - يتحدثون في الاقتصاد والتجارة دون اتفاق على معنى الصواب والخطأ، ويتناقشون في السياسة قبل الالتزام بقيم إنسانية ثابتة! وإذا لم يكن هناك بنيان راسخ للضمير، فكيف يمكن ضبط الفعل؟
إن البحث عن دور أخلاقي للأديان يؤسس لحياة متزنة يشيع فيها العدل والسلام، ويؤمِّن مستقبل الإنسانية الذي هو أمر ضروري وعاجل، لأن الذكاء الاصطناعي وتعليم الآلة لن يقوم بهذا الدور حاليًا أو مستقبلًا مالم تغيض روح الإنسان في ماديته، ليمسي وعيه الذي تميز به بين الأحياء مصدر فنائه.
ونظرة إلى واقع الحال الذي تعيشه البشرية في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، وما تتجه إليه محصلة الجهد البشري من مستقبل مزهو بنشوة العلم واكتشافاته المتتالية ومغترًا بما تفسحه التكنولوجيا من آفاق لا تبعث على التفاؤل، في رأي المؤلف، ليس لأن علماء الأنثروبولوجيا والسيكولوجيا والتطور الأحيائي والمخ والأعصاب يُرجِعون أصل الدين إلى طبيعة عمل خلايا المخ وأنظمته المختلفة وما يسمونه العقل الاجتماعي، وليس لأن أفعال الإنسان كلها ترتبط بطبيعة جسده وكيف يعمل، وإلا فما جدوى هذا العضو الذي يعتبر أعقد من الكون وهو مُخ الإنسان، وليس لاستعصاء قبول التفسير العلمي لظهور أديان نؤمن بأن مصدرها السماء، ولكن لأن قوة تصديق الإنسان بالعالم المادي تجاوزت اهتمامه بعالم الضمير والوجدان.
اللهفة على كل ما تقدمه التكنولوجيا للدول والأفراد من أجهزة وآلات ومعدات، أضعف توق الروح للحكمة، فانفردت المادة بالإرادة، واخُتزل وعي الإنسان في حواسه الخمس التي تصله بواقعه المباشر، وعدا ذلك فلا تأثير له، رغم أن تلك الحواس بالمنطق المادي ليست ما يتفوق به الإنسان على عديد من الأحياء التي تغلبه في مدى الرؤية أو السمع أو اللمس أو التذوق أو الشم.