التفاصيل
أغراني بإملاء هذا الكتاب أمران: أحدهما ما كان من إمضاء المعاهدة بيننا وبين الإنجليز في لندرة، ومن إمضاء الاتفاق بيننا وبين أوروبا في منترو، ومن فوز مصر بجزءٍ عظيم من أملها في تحقيق استقلالها الخارجي وسيادتها الداخلية. وقد شعرت كما شعر غيري من المصريين، وكما شعر الشباب من المصريين خاصة وإن باعدت السن بينهم وبيني، بأن مصر تبدأ عهدًا جديدًا من حياتها إن كسبت فيه بعض الحقوق، فإن عليها أن تنهض فيه بواجباتٍ خطيرة وتبعاتٍ ثقال. وما كان أشد تأثري بهذه الحركة اليسيرة الساذجة التي دفعت فريقًا من الشباب الجامعيين في العام الماضي إلى أن يسألوا المفكرين وقادة الرأي عما يرون في واجب مصر بعد إمضاء المعاهدة مع الإنجليز، فقد أقبل هؤلاء الشباب الجامعيون يسألوننا أن نبصِّرهم بأمورهم، ونهديهم إلى واجباتهم، وجعل كلٌّ منا يتحدث إليهم في ذلك حديثًا سريعًا مرتجلًا بمقدار ما كان يسمح له وقته وعمله وتفكيره السريع في حياة سريعة تمر بنا أو نمر بها مر البرق. وقد تحدثت إلى هؤلاء الشباب فيمن تحدث، ولكني لم أقتنع بكفاية ما تحدثت إليهم به، ولم أرَ أني قد دللتهم على ما كان يجب أن أدلهم عليه، وهديتهم إلى ما كان يجب أن أهديهم إليه، واستقر في نفسي أن واجبنا في ذات الثقافة والتعليم بعد الاستقلال أعظم خطرًا وأشد تعقيدًا مما تحدثت به إليهم في ساعةٍ من نهار، أو في ساعةٍ من ليل لا أدري، وفي قاعةٍ من قاعات الجامعة الأمريكية، وأنه يحتاج إلى جهدٍ أشق وتفكيرٍ أعمق وبحثٍ أكثر تفصيلًا، ووعدت نفسي بأن أبذل هذا الجهد، وأفرغ لهذا البحث، وأنهض بهذا العبء ولكن لم أُنبئ هؤلاء الشباب بشيءٍ مما قدرت؛ لأني أشفقت أن تحول ظروف الحياة بيني وبين إنجاز هذا الوعد، وليس أشق عليَّ من وعدٍ أبذله للشباب، ثم لا أستطيع له إنجازًا. والأمر الثاني أن وزارة المعارف ندبتني لتمثيلها في مؤتمر اللجان الوطنية للتعاون الفكري، الذي عُقد في باريس في صيف السنة الماضية، وأن الجامعة ندبتني لتمثيلها في مؤتمر التعليم العالي الذي عُقد في باريس في صيف ذلك العام أيضًا.