التفاصيل
عرفتُ هذا الكتاب الذي أقدِّمه اليوم إلى قراء العربية بطريق المصادفة في باريس. أحالنا عليه أحد أساتذتنا في السوربون، فلما رجعت إليه عرفت أنه استُكشف في مصر سنة إحدى وتسعين وثمانمائة وألف، ثم نُقل إلى المتحف البريطاني في لوندرا، ثم نشرت صورته الفوتوغرافية، ثم طُبع في لوندرا وباريس وبرلين وغيرها من مدن أوروبا، ثم نُقل إلى الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية وغيرها من اللغات الحديثة، ثم نُقد وفُسر في جميع هذه اللغات، ثم دُرس في جامعات أوروبا، ثم انتفع به مؤرخو الأوربيين فأصلحوا ما كان في تاريخ أتينا من خطأ وأكملوا ما كان فيه من نقص، ثم مضت على ذلك ثلاثون سنة والمصريون لا يعلمون من أمره شيئًا. وإذ كنت أدرس تاريخ اليونان في الجامعة وكنت قد أخذت نفسي بأن أفسر للطلاب من حين إلى حين بعض الأصول التاريخية القديمة ليتعودوا قراءة كتب التاريخ ونقدها والاستفادة منها، فقد اخترت لهم في هذه السنة هذا الكتاب.
ولكني لا أبدأ هذا الدرس حتى يملكني الخجل أن أفسر كتابًا استُكشف في مصر فأقرأ ترجمته الفرنسية أو الإنجليزية؛ لأن قراءة الأصل اليوناني غير ميسورة ولا نافعة؛ إذ ليس من طلبة الجامعة من ألمَّ بهذه اللغة.
فما لي لا أفسر لهم ترجمته العربية إذا كان الشقاء قد قضى علينا أن لا نُعنَى باللغات القديمة ولا نحفل بدرسها، أستطيع أن أترجم هذا الكتاب إلى العربية وأنا مدين لمصر بهذه الترجمة؛ لأني لم أتعلم لأنتفع وحدي بما تعلمت؛ ولأن من الحق على كل مصري أن يبذل ما يملك من قوة لإصلاح ما أصاب مصر من فساد، فما هي إلا أن فكرت في ذلك حتى أخذت في الترجمة، وما هي إلا أن أخذت في الترجمة حتى أتممتها وأنا أقدمها الآن إلى القراء.
مؤلف هذا الكتاب هو (أرسطاطاليس)، وقد كان العرب لا يعرفون من أمر هذا الرجل إلا أنه المعلم الأول زعيم فلاسفة اليونان ورئيسهم، وأن فلسفته قد نُقلت إلى العربية في عصر العباسيين فأثرت في العقل العربي تأثيرًا عظيمًا، بل خلقت هذا العقل خلقًا جديدًا وأنجبت من الفلاسفة أمثال الفارابي وابن سينا وابن رشد وغيرهم من الفلاسفة الذين يزدان بهم تاريخ المسلمين.ؤفأما سياسة الرجل وآراؤه في المدينة وما ينالها من استحالة وانتقال وما يختلف عليها من النظم المختلفة ومن صور الحكم المتباينة بين ملكية وأرستوقراطية وديموقراطية، فقد كان العرب يجهلون ذلك جهلًا تامًّا أو كانوا لا يلمون به إلا إلمامًا قليل الغناء.
وكذلك كان العرب وغيرهم من أهل أوروبا في القرون الوسطى لا يعجبون بأرسطاطاليس إلا من حيث إنه فيلسوف قد درس أقسام الفلسفة فأتقن درسها، وجدَّد في كل قسم منها مذهبًا جديدًا أصبح هو المذهب الذي يذعن له أكثر الفلاسفة على اختلاف العصور والبيئات من غير أن يحاولوا نقده أو التغيير فيه.ثم استكشف في العصر الحديث كتاب السياسة، فعرف المحدثون من (أرسطاطاليس) رجلًا آخر لم يكن يعرفه أهل القرون الوسطى، رجلًا قد حاول درس الظواهر الاجتماعية بنفس الطريقة التي أراد أن يدرس بها الظواهر الطبيعية، والتي أراد أن يدرس بها الظواهر النفسية، والتي أراد أن يدرس بها ما بعد الطبيعة.