التفاصيل
ما أكثر ما أعجب من نفسي! وما أسرع ما يستحيل هذا العجب إلى سخرية منها أول الأمر، ثم إلى رثاء لها وعطف عليها! لا يعرض لي شيء غريب أو مألوف إلا حاولت أن أتبين أصله وأرده إلى علته. وقد أبلغ من ذلك ما أريد فأرضى؛ وهذا نادر، وقد أعجز عن التعليل والتأويل فأسخط؛ وهذا كثير. وأنا على كل حال ساخرة من نفسي لهذا المرض الذي لا أجد منه برءًا؛ مرض التماس العلة والانتهاء إلى المصادر والأسباب.
والناس يقولون: إننا - نحن الفرنسيين - أمة مريضة بالتعليل والتحليل، وإن فيلسوفنا ديكارت قد أفسد علينا عقولنا لكثرة ما ألح علينا في أن نحلل ونعلل، ولشدة ما فُتنَّا بتحليله وتعليله حتى أصبحنا جميعًا فلاسفة أو كالفلاسفة، وحتى اتخذ العالم منا والجاهل، والمثقف منا والساذج، طور الفيلسوف الذي لا يرضى ولا يطمئن إلا إذا رد كل شيء إلى أصله، ووجد له تفسيرًا أو تأويلًا.
وأكبر الظن أن هذا حق؛ فإننا - نحن الفرنسيين - حين تعرض لنا المشكلات أو تلم بنا الأحداث لا نعنى بحل المشكلات ولا بالتخلص من الأحداث، وإنما نعنى قبل كل شيء بتفسيرها وتأويلها، فإذا وصلنا من ذلك إلى ما نريد رضينا واطمأنت قلوبنا وأذعنَّا للقضاء، وقد يشغلنا هذا عن التماس المخرج مما يلم بنا من الخطوب أو يعرض لنا من الأزمات.