سيرة الغبار
  • الكمية المتاحة: متاح الكمية متاحة نفذت الكمية يمكنك شراء هذا المنتج حتى إذا نفذت الكمية

سيرة الغبار

LE 150.00
التفاصيل
كتب بورخيس في كتابه «صنعة الشعر»، «أن الكتب هي فرصة للجمال».
أن تكتب هو أن تغرس وردة في بستان أيامك، أو تنزع شوكة من عينيك.
بالكتابة تقطع مسافات مستحيلة وتردم هوة هائلة في روحك، أو تتفاوض مع الحياة على شروط البقاء.
الكتابة استمالة، فإن نفرَّ منك القارئ فأنت لم تكتب شيئًا.
والناقد الذي يصل إلى المتلقي بلغةٍ مفهومة وأسلوبٍ سلس، ويشرح التفاصيل ويُراعي الدلالات ويجيد الاستشهادات، هو الناقد الحق والكاتب الصادق مع نفسه والآخرين.
والاستمالة هنا لا تعني المداهنة ولا المهادنة، وإنما المقصود بالكلمة هو أن تجذب القارئ مع تقدير عقله ومشاعره وذائقته، دون أن تقع في محظور التفاهة.
يعمل الناقد على استجلاء التفاصيل وإزالة ظُلمة الرواية لتفتح له رحمها وتكافئه بفكرة ما؛ لذا يغزو العمل الإبداعي بهيبته المسوّرة بالعقلانية والمعرفة. والنقد في جوهره تقصٍ أو جهدٌ يتجه بنا إلى إمكانية عالية؛ إذ يهدف إلى إضاءة جوانب أخرى من الأعمال الفكرية والإبداعية.
إنه يحلّق فوق الحياة، ولكنه يصطاد من تفاصيل العمل الإبداعي جماليات أو سمات أو مواطن تستحق الفهم والتأمل، ويلتقط أصداء الأسئلة الدفينة، والمآزق الوجودية والأشواق الأبدية، بعيدًا عن أي استسهال أو تنميط.
لكل ناقدٍ حساسيته وتجربته التي تخوّله فهم آليات النص والكشف عن مزاياه واستخلاص النتائج المناسبة. لا يوجد شيء اسمه قراءة واحدة للنص، بل إن التأويلات هي جزء من متعة القراءة والنقد.
عبر قراءاتٍ نقدية وفكرية متنوعة، يُقدِّمُ هذا الكتاب رصدًا آنيًا ومتوهجًا ومفعمًا بالحيوية والخشونة للأدب والفكر المعاصر. الشاهد أن العقود القليلة الماضية كانت ديناميكية للغاية وحتى محمومة في المجال الأدبي بشكل عام، وبالذات في مصر.
المعرفة قرين للتراكمية، أما النقد فأساسه التذوق والمقارنة وخوض غمار الاشتباك مع الأصول.
نستقرئ الأدب ونتذوقه، بما فيهِ من مبالغات واستعارات ومواربات وإيحاءات ومجازات وتوريات.
ولكن، ما هو النقد؟ 
ما هو الشعر والأدب والنقد الفني؟
يجيب الناقد وعالم الاجتماع فالتر بنيامين على ذلك بأنّ النقدَ ليس هو الحكم، بل هو، بادئ ذي بدءٍ، إلقاءُ الضوء على ما يحتويه العمل من فكرٍ (فكرٌ لا ينفصل عن الشكل، عن الأشكال)؛ هو النشر بطريقة محايثة لما يحتويه الأثرُ من فكر. فأيُّ عمل ضعيف من جهة الفكر، هو عملٌ لا يستحقّ النظرَ. لذلك فإنّ النقد يركّز فقط على الكتب «الجيدة».
في كتابه «مفهوم النقد الجمالي في الرومنطيقية الألمانية» وهو أطروحة فالتر بنيامين (1919)، يقول الناقد إن النقد لا يتعلّق بكتاب. بل يتوغّل في الكتاب، عندما تكون لهذا الكتاب جدارةٌ ما، لتفكيك ألغازه. إن أيَّ عملٍ حقيقي هو عملٌ «لا نهائي»؛ إنّه ينشر ويشكّل عددًا لا نهائيًا من الترابطات وفي نفس الوقت يحدّها، ويحدّدها، عبر وساطة الشكل الذي يقوّيها. فهو يحتوي على «تواطؤات سرية». ولذلك فإنّ شكلًا من أشكال «عدم الفهم» (يمكن أن نقول اليوم عدم الوضوح) متأصّلٌ فيه. ذلكم هو حضور عقلٍ أسمى فيه، «عقلٌ كثيفٌ ومتوهج»، يعطي للأثر «مرونته وقوته» كما ذهب إلى ذلك فريدريش شليغل.
ولقد رأينا حتى في المجلات والصحف والمواقع الإلكترونية المختلفة قراءات نقدية عميقة، على الرغم من حدود الحيز النقدي، كان لها دورٌ في الارتقاء بذائقة القراء والمساهمة في تنشيط حركة النقد، بل وساهمت هذه القراءات النقدية في تبسيط عالم النص حتى يحقق مقروئيته.
غنيٌ عن القول، إن إنتاج الأثر النقدي لا يستقيم دون علاقة مثالية مع القارئ، فأول ما يقرر مصير النص النقدي هو لغته. في النقد، مهمة الناقد هي تحويل الفكرة النقدية إلى سبيكة لغوية مشرقة، عميقة، وسهلة المأخذ.
إن الشكل الأسمى للشعر هو الرواية بوصفها «شعرًا مرسلًا»؛ إذ يسع الرواية احتواء «عدد كبير من القصائد. فما يميزها قبل كل شيء، بقدر ما تنجز «فكرة الشعر»، هو خاصيتها «النثرية». فمن حيث هو سلوك متأمل وواضح، فإنّ التفكير هو عكس النشوة والهوس الأفلاطوني» وهو ما يسميه هولدرلين «الرصانة». يحدثُ أن تُقحم الرواية مبدأ التهكّم (وهو النفي المستمر للمحتوى). لكنه يلجأ أيضًا إلى «الأرابيسك»، الذي يتمّ من خلاله الارتقاءُ بالمواد وإبرازها باللجوء إلى المحتوى الأسطوري الذي يختبئ فيها. وبوصفه شكلًا ساميًا من التأمل، يكملُ النقدُ الأثرَ الأدبي ويجدّده، فيرفعه إلى مستوى أعلى من التفكّر القائم فيه بالقوّة؛ ولذا ينبغي أن يكون النقد في حد ذاته عملًا فنيًا.
إن الروائي يقدِّم لقارئه أحداثًا وتجارب مختلفة يمر بها أفرادٌ من نوعيات ومشارب متنافرة، ويدع للقارئ فرصة استنباط أفكار من وقع هذه التجارب التي تحاك وتُحْبك، لتُعبِّر عن اهتماماته. وتدفعه إلى إعادة النظر في إشكاليات وجودية وتساؤلات عن الهوية والانتماء، فضلًا عن إشكالية الحياة العبثية التي يتزعزع تحت وطأتها العالم كله.
ذات يوم قالت الأديبة الفرنسية مارغريت دوراس في استبصارٍ محترم:
«أعتقد أنّ الناس لن يقرأوا فيما سيأتي من الأيام، مع ذلك سيستمرّ البعض في الكتابة بالرغم من أنّ أحد لن يقرأ شيئًا، وستصير القراءة وقفًا على نحلة مغلقة. لا أريد أن أضع نفسي مكان أولئك الذين سيعيشون بعد العام 2000؛ لأنّ كلّ الشروط ستجتمع ليُعاش الضجر بامتلاء. لقد فكرّتُ مليًّا في السأم العميق الذي سيحلّ على تلك الحقبة ولا أرى غير ذلك، مع مزيد من الإمعان في السأم بحثًا عن حدثٍ هباء».
ربما يكون هذا صحيحًا، لكن الكتابة فريضة.
الأكيد أن «الحكاية الناجحة هي التي تُروى من جديد فيتحول من يصغي إليها إلى راو وهكذا»، على حد قول عبدالفتاح كيليطو في كتابه «الغائب: دراسة في مقامة للحريري».
عبر الأعمال الإبداعية المكتوبة، نفهم بدرجة أكبر الإنسان بكل نقائصه، ونستوعب قسوته وهشاشته، ونتأمل الحضور الباذخ للمكان والزمان، ونمتلك نظرة أعمق للحظات والأحداث السائلة، ونعيد الاعتبار لكل ما هامشي وعابر.
والروايات هي حكاياتٌ لا تغلق أقواسها، طالما أن القارئ يجد فيها طيف أحلامه أو بقايا كوابيسه.
دعونا نقول إن أفضل تعريف شخصي للرواية بحسب كاتب هذه السطور، هو ذلك العمل الإبداعي الذي يُقِّدم لنا مادة الحياة، التي يتوقف أمامها الزمن ليفكر، والإنسان ليستعذب الحزن.
وما بين هذا وذاك، نستقصي نحن القراء أثرَ الصدفة والعبث في هذا العالم. 
إن ولادةً جديدةً لِلنَّص في ذهنِ القارئ، هي أفضل الجوائز عند المبدع، الذي يحلم بأن تخلق سمكته محيطًا وأن يصنع القراء من قاربه مجذافًا.
من جهةٍ ثانية، يبدو لي القارئ مخيفًا وسخيفًا؛ لأن أحكامه المتواضعة وأهواءه النزقة أحيانًا قد تجور على جماليات الأدب، فتظلم مبدعًا ما بالضربة القاضية!
إن وجدتم الجمال، لا تقتلوه بالتجاهل.

شوهدت مؤخراً

العودة إلى أعلى
Liquid error (layout/theme line 288): Could not find asset snippets/globo.preorder.script.liquid